فصل: مطلب الآيات المدنيات ومحاسن الأخلاق وبمن نزلت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب الآيات المدنيات ومحاسن الأخلاق وبمن نزلت:

وهذه الآيات المدنيات الأربع الأول من هذه السورة ذكرت بمناسبة ذكر أهل الكتاب بالآيات المتقدمة، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} التوراة والإنجيل لأن أل فيه للجنس فيشمل الواحد والمتعدد {مِنْ قَبْلِهِ} قبل محمد وكتابه {هُمْ بِهِ} بمحمد {يُؤْمِنُونَ} 52 لوجود نعمته في كتبهم {وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} القرآن المنزل عليه {قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} قبل نزوله {مُسْلِمِينَ} 53 للّه مؤمنين به منقادين لأحكام كتبه ومن جملتها الإيمان بمحمد وكتابه {أُولئِكَ} القائلون هذا القول.
{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} يوم القيامة من ربهم {مَرَّتَيْنِ} لإيمانهم برسولهم وكتابهم الأولين، لأن اليهود آمنوا بموسى والتوراة، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم أنهما آمنوا الآن بمحمد والقرآن، أي الرسول الثاني والكتاب الثاني بالنسبة لكل منهما، ولذلك اعطى كل منهما أجرين، ولا يضر اليهود عدم إيمانهم بعيسى بعد أن آمنوا بمحمد، لأن الإيمان به يجب ما قبله من الكفر كله أي يقطعه ويمحو أثره كما أن الكفر يمحق ما بعده، إذ لا يقبل اللّه عملا مع الكفر على شرط أن يصدقوا برسالة عيسى، لأن انكار نبوة واحد من الأنبياء كفر لا ينفع معه عمل من أعمال الخير، ومثل هذا لا ينفعه الإيمان بمحمد وكتابه حتى يذعن ويقر بعيسى وكتابه ويؤمن بهما.
هذا وان اللّه تعالى يعطي إلى هؤلاء هذا الجزاء المضاعف {بِما صَبَرُوا} على ما كلفهم اللّه به من أمور الدين، وعلى أذى من آذاهم حتى بعث محمد فآمنوا به كما آمنوا قبلا بنبيهم، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق اللّه وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها، فله أجران.
قال تعالى في وصفهم أيضا {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي أن هؤلاء الأبرار يدفعون العمل السيء بالأحسن، ويقابلون الشر بالخير، والقصاص بالعفو، والأذى بالصفح، والظلم بالعدل، والشتم بالدعاء {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} 54 على الفقراء والمحتاجين فطوبى لهم وسقيا، ومن جملة ما هم متحلون به أيضا ما وصفهم اللّه به من الفضيلة بقوله جل قوله: {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ} الكلام البذيء وفضوله {أَعْرَضُوا عَنْهُ} فلم يخالطوا أهله ولم يبقوا معهم بل يتركوهم {وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا} بمقتضى ديننا {وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} بحسب ما تدينون به فلا يقاتلونهم ولا يجادلونهم، وهذا على حد قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الآية الأخيرة من سورة الكافرون المارة، وقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية 24 من سورة سبأ في ج 2، ومن صفاتهم أيضا إذا تعدي عليهم قالوا {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أمان منا لكم بعدم المقابلة، وهذا سلام متاركة لا سلام تحية مثله ما مر في الآية 63 من سورة الفرقان المارة، والآية 47 من سورة مريم المارة أيضا، كقولك لمن تغبر منه سلام عليك وتتركه وتذهب وقالوا أيضا {لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} 55 لا نطلب مقابلتهم ولا نخاطبهم ولا نصاحبهم، فهنيئا لهم على هذه الأخلاق الكاملة، ومن آداب الأبرار كظم الغيظ والسماح لمن يتعدى ويغلظ عليهم، ولين الجانب لمن يشدد عليهم.
انتهت الآيات المدنيات.
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها- أي هذه الآيات الأربع واخر الحديد نزلن في أصحاب النجاشي الذين قدموا منه وشهدوا وقعة أحد، أي كان نزولها في المدينة السنة الثانية من الهجرة وقال مقاتل: في هذه السورة من المدني {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} إلى {لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} وقيل إن المعنيين في هذه الآيات أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا وصبروا.
وأخرج ابن مردويه بسند جيد، وجماعة عن رفاعة القرطبي ما يؤيده.
وقيل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهم أربعون رجلا مع جعفر بن أبي طالب، فلما رأوا ما بالمسلمين من حاجة وخصاصة قالوا يا رسول اللّه إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بها فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، وهذا أنسب بالمقام لأن من أهل الإنجيل ذوي رقة وزهد، يؤيده قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} الآية المارة، وما جاء في الآية 82 فما بعدها من سورة المائدة في ج 2، وما قيل إنها في عبد اللّه بن سلام لا يعول عليه لأنه لم بسلم بعد وهي صالحة لكل من القولين أما الأخير فلا، قال تعالى: {إِنَّكَ} يا سيد الرسل {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قريبا كان أو بعيدا {وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} هدايته فيقذف في قلبه نورها فينشرح صدره للإيمان فيهتدي {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 56 أزلا.

.مطلب ما قاله أبو طالب لحضرة الرسول عند وفاته:

روى مسلم عن أبي هريرة قال إنك لا تهدي من أحببت إلخ نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام، وكان شديد الحرص على إسلامه لكبير حقه عليه، وكثير محبته له، وحمايته من قريش وغيرهم، ولم يجرؤ أحد على الرسول إلا بعد وفاته حتى سمي عامها عام الحزن، لأن خديجة تلته بعد ثلاث ليال، وكان وجوده قوة عظيمة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، وكان يأمل أيمانه، ولما مات تأثر عليه جدا لجهتين لحبه له وعدم إيمانه به، وذلك أنه قال له عند الموت:
يا عمّ قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها يوم القيامة، قال لولا أن تعيرني قريش فيقولون إنما حمله على ذلك الجزع لا الرغبة في دينك الحق ومسلكك المستقيم لأقررت بها عينك ثم أنشد:
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبّة ** لوجدتني سمحا بذاك قمينا

ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات، فأنزل اللّه هذه الآية، وذلك في نصف شوال السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين وأربعة أشهر.
والعبرة بمبدأ السنة هنا رمضان الذي وقعت فيه البعثة سنة 41 من ميلاده الشريف.
وقيل إنه قال يا معشر بني هاشم صدقوا محمدا تفلحوا.
فقال عليه السلام يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال فما تريد يا ابن أخي؟ قال أريد منك أن تقول لا إله الا اللّه أشهد لك بها عند اللّه، قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت، لأن قومك سيئو الظن لا يئولون إسلامي على منهج حسن.
هذا وقد وردت أخبار وأحاديث بإسلامه عند الموت عن ابن عباس وغيره، وأخبار أخرى بأن اللّه تعالى أحيا لحضرة الرسول أبويه وعمه أبا طالب وآمنوا به، وان أقوال أبي طالب هذه تدل صراحة على تصديقه لحضرة الرسول وإيمانه به، أما أبواه فهما من أهل الفترة لأن أباه توفي قبل ولادته بشهرين، وأمه بعدها بست سنين، فلم يحضرا البعثة وكل من لم يحضرها فهو من أهل الفترة، وأهل الفترة كلهم ناجون راجع الآية 46 المارة وما ترشدك إليه من الآيات، ولبحثها صلة واسعة في الآية 15 من الإسراء الآتية، ولهذا فالاحسن أن يميل العاقل إلى إسلامه وإسلام أبوي النبي صلّى اللّه عليه وسلم، لأن القول بخلافه يؤذي أهل البيت، وربما يؤذى حضرة الرسول في قبره الشريف، وما على اللّه بعزيز أن يحييهم حتى يؤمنوا به وصدق من قال: ولاجل عين ألف عين تكرم، وقدمنا ما يتعلق في هذا آخر الشعراء المارة في الآية 214.
هذا، واعلم بأنّ وفاته محققة بالتاريخ المذكور أعلاء، وإذا كان كذلك وهو كذلك فإن هذه الآية لم تنزل بحقه، لان بين نزولها وموته مدة كثيرة، ويوشك أن حضرة الرسول قرأها عند وفاته لانطباق معناها على ما في قلبه الشريف من محبة هدايته وتكرار أمره له بالإيمان بربه، وجوابه له بنحو ما ذكر يستدعي تلاوة هذه الآية، على أن جمهور المفسرين قالوا بنزولها في أبي طالب، وهذا لا يتجه إلا أن تكون هذه الآية مؤخرة في النزول عن سورتها أو أنه قرأها في حياته بحضوره، وعلى هذا تكون نازلة بحقه، إلا أن أحدا لم يقل به، هذا واللّه أعلم.
قال تعالى: {قالُوا} كفار مكة {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ} يا محمد {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا} وجابهه بهذا القول الحارث بن عثمان بن نوفل إذ قال لرسول اللّه: إنا نعلم أن الذي تقوله حق ولكن إن اتبعناك نخاف أن تخرجنا العرب من أرض مكة، فأنزل اللّه جل إنزاله {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} بآمنون به على أموالهم وأنفسهم دون سائر العرب؟ لأن الجاهلية كانوا لا يغيرون على أهل مكة ولا يقاتلونهم ولا يسلبونهم لحرمة البيت، حتى انه من المعروف في ذلك الزمن أن الظباء تأمن فيه من الذئاب، والحمام من الحدأة، وهذا لا يستغرب، لأن اللّه تعالى الذي ألهم السمك بالخروج يوم السبت وعدم التعرض له [راجع الآية 163 من سورة الأعراف المارة] ألهم الظباء والحمام ذلك أيضا، وفضلا عن ذلك أنه {يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شيء} من مأكول وملبوس ومشروب وحلي وغيره من جميع بلاد اللّه، فيوجد فيها من مصنوعات الهند والسند والصين والشام والعراق والعجم والغرب واليمن والترك والسودان والبلاد الأجنبية، حتى إنك لتجد فيها ما لا يوجد في أعظم البلاد لأن جل البلاد تجلب إليها من أحسن مصنوعاتها في الموسم، وهذا واقع ولا يزال، وفاء بعهد اللّه لأهل بيته، وإجابة لدعوة جدّ رسوله محمد إبراهيم عليهما السلام كما سيأتي في الآية 126 من البقرة في ج 3، ويرزقون فيه {رِزْقًا} عظيما مختلف النوع والجنس والصفة والقيمة {مِنْ لَدُنَّا} نحن رب البيت العالم بما يكون لأهله من الكرامة {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 57 أن رزقهم من عندنا، وأنا نسوقه إليهم، لأنا مكلفون بكل الخلق وخاصون أهل مكة بما لا نخص به غيرهم، أفلا يعلمون أن الخوف والأمن من عندنا نخيف من نشاء ونؤمن من نشاء، كما نفقر من نشاء ونغني من نشاء، ونعز من نشاء ونذل من نشاء، ولكن لفرط جهلهم وعدم ثقتهم بربهم لا يعلمون ذلك، وفي قوله تعالى: {أكثرهم} إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ} أي أثرت وطغت ولم تحفظ حق اللّه فتشكر {مَعِيشَتَها} وتحمد اللّه على النعمة، بل خرجت عن الشكر ولم تحمل نعمة الغنى، فأهلكها اللّه تعالى: {فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} عند المرور بها لاستراحة فقط، تشاؤما منها بسبب ما وقع على أهلها من العذاب {وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ} 58 لها لا يملك أحد التصرف بها غيرنا لأنهم كانوا يتمتعون بنعم اللّه ويعبدون غيره، خير اللّه إليهم نازل وشرهم إليه صاعد، فما قدّروه بعض قدره، ولا مجدوه جزءا مما يستحقه، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة وتهديد بأنهم إذا داوموا على كفرهم تكون عاقبتهم كعاقبتهم فيدمرهم ويترك مساكنهم خاوية عبرة لغيرهم، كديار قوم هود وصالح ولوط وغيرهم، قال تعالى: {وَما كانَ رَبُّكَ} يا أكرم الرسل في حكمه الأزلي، ولا في غيبه القديم، على خاصة، إذ لا غيب عليه {مُهْلِكَ الْقُرى} الكافر أهلها {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا} ينذرهم ويخوفهم بأس اللّه، والمراد بالأم هي البلدة التي ترجع أهالي القرى والقصبات في أمورها إليها ممن يسكن في أطرافها التي يكون فيها الوجهاء والأشراف والقادة، ومكة شرفها اللّه محل ولادة الرسول، وقاعدة البلاد العربية، ومحط أنظار العرب والإسلام، ومهبط الوحي، يؤمها القريب والبعيد، وكل البلاد حولها من أطرافها الأربع يرجعون إليها، وفيها أشراف قريش وحرّاس بيته، ولذلك بعث فيها أعظم الأنبياء وخاتمهم {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} ويبلغهم وبال العذاب النازل بهم إذا لم يؤمنوا لا محالة {وَما كُنَّا} عفوا بدون ذنب أو سبب {مُهْلِكِي الْقُرى} وما جرت بذلك سنتنا لأنا لا نهلكهم {إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ} 59 متوغلون في الظلم مصرون عليه، إذ ما صح ولا وقع من لدنا إهلاك غير الظالمين العاكفين على كفرهم وشأننا الآن وبعد كذلك، أما الذين آمنوا وضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام فإنا نحفظهم ونزيد في إكرامهم، ولا نجعلهم عرضة لتسلط أحد عليهم، بل نحميهم ونرزقهم ونؤمنهم في ديارهم، قال تعالى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شيء} أيها الناس {فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} التي تتمتعون بها أياما قليلة {وَزِينَتُها} تتزينون بها لأجل معلوم، ثم تنقضي هي وما جمعتموه منها {وَما عِنْدَ اللَّهِ} من النعيم الدائم في الدار الباقية {خَيْرٌ} لكم من متاع الدنيا الفانية {وَأَبْقى} وأدوم منه والدائم خير من الفاني {أَفَلا تَعْقِلُونَ} 60 ذلك قال ابن عباس جعل اللّه أهل الدنيا ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ثم قرأ هذه الآية قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدًا حَسَنًا} هو الجنة التي لا أحسن منها ذات النعيم الدائم {فَهُوَ لاقِيهِ} نائله لا محالة ومصادفه في حياته وصائر إليه عند مماته {كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} القريبة الزوال {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} 61 بين يدي اللّه في الموقف العظيم فيحاسب على ما أصابه في الدنيا، كيف جمعه، وفيم أنفقه، ولم أبقاه ولم يؤد حقه، ثم يقذف في النار، وحينئذ يندم ولات ساعة مندم، ويريد الفرار ولات حين فرار، ولهذا جاء لفظ المحضرين في خاتمة هذه الآية وفي قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} الآية 137 من الصافات في ج 2 لدلالتها على هذا المعنى، ويكون الإحضار في ذلك الموقف لأجل مناقشة الحساب وترتيب العقاب، قيل إن هذه الآية نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وفي أبي جهل لعنه اللّه، أو في علي وحمزة رضي اللّه عنهما، وفي أبي جهل، أو في مطلق مؤمن وكافر، وهذا أولى، لأن الصيغة عامة، وهي من قبيل ضرب المثل، وحمل اللفظ على عمومه إذا لم يكن هناك مخصص أولى، حتى أن صيغة آية {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} المارة عامة في كلى من أحب رسول اللّه إيمانه من العرب وأهل الكتابين والصابئين والمجوس أيضا، لأنه كان يحب الإيمان لأهل الأرض كلهم، وهي جارية في عمومها إذ لم يثبت ما يخصصها في أبي طالب كما ذكرنا لك آنفا فإنه لو ثبت تخصيصها فرضا فلا ينفي عمومها لغيره، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ} اللّه عز وجل أو مناديه المأمور بذلك {فَيَقُولُ} للمشركين {أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 62 في الدنيا أنهم شركاء معي في ملكي، وانهم واسطة نفعكم وضركم الذين كنتم تتضرعون بهم زلفى وتزعمون أن لهم يدا عندنا، ومفعول زعم الأول محذوف تقديره تزعمونهم، والثاني محذوف أيضا تقديره شركائي، لأن زعم يتعدى إلى مفعولين جائز حذفهما، قال في الكشاف: يجوز حذف المفعولين في باب ظن ولا يصح الاقتصار على أحدهما، وقال أبو حيان: إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله:
كان لم يكن بين إذا كان بعده ** تلاق ولكن لا إخال تلاقيا

أي لا إخال بعد البين تلاقيا، قال تعالى: {قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الوارد في الآية؟؟؟ من سورة السجدة في ج 2، أي الواجب عليهم العذاب بما جنت أيديهم، وهم المعبودون والرؤساء الكافرون الذين كانوا يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم {رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا} أي أتباعنا الذين دعوناهم للغواية {أَغْوَيْناهُمْ} باختيارهم ورضاهم لا بطريق القسر حتى تؤاخذ عليه، وذلك أن الضال المضل له كفلان من العذاب، كفل على ضلاله، وكفل على إضلاله، راجع تفسير الآيتين 25 و18 من سورة النحل في ج 2، لذلك تبرأوا منهم وعدوهم كأنفسهم بقولهم {كَما غَوَيْنا} نحن باختيارنا ورغبتنا {تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ} الآن إذ ظهر خطأنا فيه {ما كانُوا} هؤلاء {إِيَّانا يَعْبُدُونَ} 63 بل عبدوا شهواتهم راجع الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ} من الأصنام والنجوم والنار والحيوان وغيرها {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لأن اللّه ختم على أفواه الناطقين منهم ولم يجعل قوة التكلم في الجمادات منها، فأيسوا مما كانوا يتوقعونه من شفاعتهم {وَرَأَوُا الْعَذابَ} المهيأ لهم هناك على سوء أعمالهم وهؤلاء الخاسرون {لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ} 64 في الدنيا لما حل بهم ذلك العذاب ولكنهم ضلوا فحاق بهم ضلالهم {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ} واذكر يا سيد الرسل لقومك يوم يسألهم في ذلك الموقف {فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 65 حين دعوكم إلى الإيمان ورفض الأوثان {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ} خفيت عليهم الأخبار واشتبهت عليهم الأعذار ووقعوا في حيرة {يَوْمَئِذٍ} يوم يلقى عليهم هذا السؤال {فَهُمْ} كلهم مشغولون بأنفسهم {لا يَتَساءَلُونَ} 66 بعضهم مع بعض عما وقع منهم بالدنيا، بل يسكتون يعلوهم الذل والوجل رجاء أن تكون لهم حجة أو عذر عند اللّه يلقى في قلوبهم صورته، لأن ذلك الموقف يذمل فيه كل الخلق ومنهم الأنبياء لشدة هوله، فيفوضون فيه الجواب عما يسألون عنه إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة السؤال عنه، فما ظنك بأولئك الضلال؟ وقرىء فعميّت بالتشديد، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا} في دنياه {فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} 67 في الدار الآخرة، وعي هنا للتحقيق أي وجب أن يكونوا من الناجحين السعداء بفضل اللّه وحسن أعمالهم وأما من كان على العكس فوجب أن يكونوا من الخاسرين المعذبين بعدل اللّه وسوء أعمالهم {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ} من الأعيان والاعراض، والوقف على يختار لا على يشاء وهو معطوف على يخلق، فلا يخلق شيئا بلا اختيار، وهو أعلم بوجود الحكمة فيما يختاره، وهؤلاء المخلوقون كلهم {ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} التّخير في شيء من أمرهم، كالطيرة بمعنى النظير، بل للّه الخيرة عليهم {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}.